الوَزير السَجين


الفصل الأول

1) السُّلْطانُ الْهِنْدِيُّ )

عاشَ — في قَدِيم الزمانِ — سُلْطانٌ هنْدِيٌ، قويُّ الْبَأْسِ، غليظُ الْقَلْبِ. وكان يَخْضَعُ

لهذا الظالِمِ الطَّاغِيَةِ جَماعةٌ مِنَ الوُلاةِ، يَحْكُمونَ كَثيرًا مِنْ مُدُنِ الهنْدِ وبِلادِها الزَّاخِرَةِ

(الْمَمْلُوءَةِ) بِالأُلوفِ مِنَ الأهْلِينَ. وكانُوا لا يَسْتطِيعُونَ أَنْ يُخالِفُوا لَهُ قَوْلًا، أوْ يَعْصُوا لَهُ

أمْرًا.

وكانَ كلَّما رأَى تِلْكَ الطَّاعَةَ الْعَمْياءَ، أَضَلَّهُ الِاسْتِبدادُ، فأَسْرَف في ظُلْمِهِ. وتَمادى بِهِ

الزَّمَنُ عَلَى ذلِكَ، فَخُيِّلَ إليْهِ أنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْخَطَأِ، وأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ — مِن الْوَهْمِ

والنِّسْيانِ والْغَلَطِ — لا يَجُوزُ عَليْهِ.

2) الوَزيرُ العادِلُ )

ولَوْ كانَ الْأمْرُ مَوْكُولًا إلَى ذلكَ الْمُسْتَبِدِّ الطَّاغِيَةِ، لَزُلْزِلَ حُكْمُه، واضْطَربَ أمْرُهُ — فِي وَقْتٍ

قَصير — لِأنّ الْعَدْلَ أساسُ الْمُلْكِ، والْبَغْيَ مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ.

وَقَدْ كان .« سِيلا » عَلَى أَنَّ هذا السُّلْطانَ الظَّالِمَ كانَ لَهُ وزيرٌ عادِلٌ يَثِقُ بهِ؛ يُسَمَّى

هذا الْوَزِيرُ — إلَى عَدْلِهِ — رَحِيمًا، بَصيرًا بِعَواقِبِ الأمُورِ، أصيلَ الرّأيِ، حَسَنَ التَّدْبيرِ، لا

يُفَكِّرُ إلِّا في إسْعادِ الشَّعْبِ، وتأمِينِ البِلادِ مِنْ أعدائها. فهُو يُعالِجُ حَماقةَ السُّلطانِ بِبَراعَتِهِ

وكِياسَتِهِ، وَيَمْنَعُ طُغْيانَهُ بِذَكائهِ ولُطْفِ حِيلتهِ.

الوَزير السَجين

3) إخلاصُالوَزيرِ )

وقَدْ عَرَفَ السُّلطانُ فضْلَ وزِيرِه، ورَأى سَدادَ تَدْبيرِهِ، وأصالةَ رَأْيهِ، في حَلِّ مُشْكِلاتِ

الدَّوْلةِ، فأَحَبَّهُ حُبٍّا شَديدًا، ومَنحهُ ثِقَتَهُ، فَلَمْ يُخالِفْ لهُ مَشُورةً، ولم يَنْقُضْلهُ رَأْيًا. ووَهَبَهُ

الجزيلَ مِنَ الْعَطايا، والنفِيسَ منَ الْهَدايا.

أمَّا الشَّعْبُ فَقَدْ أحَلَّ الْوَزِيرَ — مِنْ نَفْسِهِ — أسْمَى مَكانَةٍ، وَقَدَّرَ إخْلاصَهُ وَعَدْلَهُ

وَكَرَمَ خُلُقِه أجْملَ تَقْديرٍ.

« سِيلا » 4) نَصِيحَةُ )

وَفي أواخِر أيَّامِ ذلِكَ السُّلْطانِ، اخْتَبَلَ عَقْلُهُ واشْتَدَّ طُغْيانُهُ. وضَجِرَ بهِ الوَزِيرُ، فلَمْ يَسْتَطِعِ

الْبَقاءَ مَعَهُ، لِما رَآهُ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِه، وَشِدَّةِ عَسْفِه.

وَأَدْرَكَ الوَزيرُ — بِثاقِبِ فِكْرِهِ، ونافِذِ بَصِيرَتِه — أنَّ الْقَوانينَ الْجَديدةَ الظَّالِمَةَ الَّتي

أمَرَهُ السُّلطانُ بتَنْفيذِها، غَيْرُ مَحْمُودَةِ الْعَواقِبِ. فاضْطُرَّ إلَى تَبْصِيرِ مَوْلاهُ بِما تَجُرُّهُ عَلْيهِ

مِنَ الْأذِيَّةِ وسُوءِ الْمَصِيرِ.

5) غَضَبُ الطَّاغِيَةِ )

ولَمْ يَكَدِ الْوَزِيرُ يُكاشِفُ سَيِّدَهُ بنَصِيَحتِهِ الصَّادِقَةِ، حتَّى ثارَ ثائِرُهُ، وتوَعَّدَهُ بالْوَيْلِ، إذا

لا بُدّ أنْ تُنَفِّذَ مَشِيئَتِي، وَتُطِيعَنِي طاعَةً » : قَصَّرَ في تَنْفيذِ مَشيئَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ وَعِيدَهُ قائِلًا

«. عَمْياءَ، وَإلَّا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِبَطْشِي وانْتِقامِي

8

الفصل الأول

وعَرَفَ الْوَزِيرُ صِدْقَ وَعيدِ مَوْلاهُ. وأَيْقَنَ أنّهُ لَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْبَطْش به، متَى وقَفَ فِي

سَبيلِ طُغْيانِه، وكَبْحَ هَواهُ الجامِحَ، ولكِنَّهُ عَرَفَ — إلَى ذلكَ — أنَّهُ سَيَقْضِيحَياتَهُ كلَّها —

إذا شارَكَ سَيِّدَهُ في جَوْرِهِ — مُضْطَرِبَ الْبالِ، وأنّ ضَمِيرَهُ سَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذلكَ طُولَ عُمْرِه،

فآثَرَ الْمَوْتَ (اخْتارَهُ) على تَعْذِيبِ الضَّمِيرِ.

6) الإِنْذارُ الأخِيرُ )

واشْتَدّ غَضَبُ السُّلْطانِ وَهِياجُهُ —منْ عِنادِ وزيرِهِ — فَنادَى حُرَّاسَهُ، فلّبوْا نِداءَهُ مُسْرِعينَ.

الآنَ أدَعُ لَكَ آخِرَ فُرْصَةٍ قَبْلَ أنْ أبْطِشَ بِكَ. » : ثُمّ الْتَفَتَ إلَى وزِيرِهِ مُتَوَعِّدًا، وأنْذَرَهُ قائِلًا

فإذا أفْلَتَتْ مِنْكَ هذِهِ الفُرْصَةُ، فلَنْ تَظْفَرَ بِمثْلها أبَدًا؛ لِأنََّ الْمَوْتَ يَنْتَظِرُكَ متَى أصْرَرْتَ عَلىَ

«؟ عِنادِكَ. فَخَبِّرْنِي الآن: هَلْ قَبِلْتَ تنفيذَ مَشِيئَتِي

رَأْسَهُ رافِضًا أَمْرَ مَوْلاهُ، في ثَباتٍ وإصرارٍ. « سِيلا » فَهزّ الْوَزِيرُ

9

الوَزير السَجين

هَلُمُّوا، فاقْبِضُوا عَلَى هذا الأثَِيمِ، واسْجُنُوهُ » : فَصاحَ السُّلْطانُ — في حُرَّاسِهِ — قائِلًا

في أَعْلَى بُرْجِ الْهَلاكِ، حَيْثُ يَقْضِي بَقِيَّةَ أَيَّامهِ مُعَرَّضًا لِحَرارَة الشَّمْسِ الحامِيةِ — دونَ

«. طعامٍ أوْ ماءٍ — حتَّى يهْلِكَ جُوعًا وعَطَشًا، جَزاءً لَهُ عَلَى عنادِهِ

7) حَيْرَةُ الْحَرَس )

وتحَيَّرَ الْحُرّاسُ في أَمْرِهِمْ، فَلَمْ يَدْرُوا ما يَصْنَعون. واقْتَرَبوا مِنَ الْوَزِيرِ الْعَظِيمِ مُتَباطِئينَ

مُترَدِّدِينَ. فَقَدْ عَرَفوا مَكانَهُ الْخَطيرَ، ولَمْ يَنْسَوْا أنَّهُ أصْدَرَ الْأحَْكامَ — سِنينَ عِدّةً — بِاسْم

السُّلْطانِ، وأنّهُ أكبَرُ رَجُلٍ — بَعْدَهُ — في الْمَدِينَةِ. وكَذلكَ عَرَفوا لَهُ عَدْلَهُ في الرّعِيَّةِ، ورَحْمَتَهُ

بالضُّعَفاءِ والْمُذْنِبينَ. فلَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ منْهُمْ عَلى مَسِّهِ بِيَدِهِ.

ولكِنَّ الْوَزيرَ أَنْقَذَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ وارْتباكِهِمْ، وسَرَّى عَنْ نُفوسِهِمُ الْمُكْتَئِبَةِ

لا تَخافوا ولا تَنزعِجُوا، أيُّها الأمَُناءُ الْكِرامُ، ولا يَقْلَقْ » : (الْمَحْزُونَةِ)، حينَ قالَ لَهُمْ هادِئًا

بالُكُمْ، فإنَّني لَنْ أحُْوِجَكُمْ إلى الْقَبْضِعَلَيّ. وَهأَنَذا أتقَدَّمُكُمْ إِلَى بُرْجِ الْهَلاكِ، تَنْفيذًا لإرادةِ

«. موْلانا السُّلْطانِ

ثُمّ خرَجَ الْوَزِيُر مِنْ حُجْرَةِ السُّلْطانِ، وقد اكْتَنَفَهُ الْحُرّاسُ (أحاطُوا بهِ). وما زالَ سائرًا

أمامهُمْ، فِي هُدوءٍ وَاطْمِئْنانٍ، وهُوَ مَرْفوعُ الرَّأْسِ، مَوْفورُ الْكَرامَةِ، وقَدِ امْتلأَ قَلْبُه رِضًا،

بَعْدَ أنْ أدَّى واجِبَهُ أحْسَنَ أداءٍ.

10

الفصل الثاني

« سِيلا » 1) شَجاعةُ )

عالِمًا بما هُوَ قادِمٌ عَلَيْهِ مِن الشَّقاءِ في بُرْجِ الْهلاكِ. ولَمْ يَكن يَجْهَلُ « سِيلا » كانَ الْوَزِيرُ

أنَّ جمِيعَ مَنْ سُجِنُوا — في هذا الْبُرْجِ — ماتُوا ولم يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وأيْقَنَ الْوَزِيرُ بِقُرْبِ

أَجَلِهِ، وَدُنُوِّ آخِرَتِهِ. وعَرَفَ أنَّهُ لنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إلِّا مَيِّتًا، أوْ يُدْفَنَ فِيهِ حَيٍّا. وَلكِنَّهُ — معَ ذلِكَ

— لم يُظْهِرْ شَيْئًا مِنَ الْجَزَعِ، بَلِ اعْتَصَمَ بالصَّبْرِ، وأسْلَم أمْرَهِ لله.

2) زَوْجَةُ الْوَزِيرِ )

وقد فكَّر الْوَزِيرُ طويلًا فِيما هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الْهَوْلِ، ثمّ هَداهُ ذَكاؤهُ إلَى حِيلَةٍ بارعةٍ،

تُنْقِذُهُ — إذا نَجَحَتْ — مِمّا تَعرّضَلَهُ منَ الْمَخاوِفِ، واسْتَهْدَفَ لَهُ مِنَ الْمَخاطر، فِي ذلك

الْبُرْجِ الْمَشْئُومِ. وَلَمْ يَكُنْ لهُ مِنْ صَديق يَثِقُ بهِ، ويَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فِي إنْفاذ خُطَّتِهِ الْبارِعَةِ، غَيرُ

زَوْجَتِه.

وقَدْ تَطَوّعَ أحَدُ الحُرّاسِ بإخْبارها بكُلِّ ما حَدَثَ. فَلَمَّا جَنَّ الَّليْلُ وخَيّمَ الظَّلامُ.

خَرَجَتْ زَوْجَةُ الْوَزِيرِ، حَتَّى بَلَغَتْ سُورَ الْبُرْجِ.

الوَزير السَجين

3) حِوارُ الزَّوْجَيْنِ )

حَيَّاها، فَرَدَّتْ علَيْهِ تَحِيَّتَهُ، وسَألَتْهُ مَحْزُونَةً، في صَوْتٍ مُنْخَفِضٍ: « سِيلا » ولَمَّا لَمَحَها

«؟ ألَيْسَ فِي قُدْرَتي أنْ أقُومَ بِشَيءٍ يَنْفَعُكَ »

بَلَى (نَعَمْ) تَسْتَطِيعِينَ أنْ تُسْدِي ( تُقَدِّمِي) إلَيَّ نَفْعًا » : فقَالَ لَها فِي هَمْسٍ وخُفُوتٍ

جَزِيلًا. وَلكِنِّي أوُصِيكِ بِالصَّبْرِ والثِّقَةِ باللهِ، لِيَنْجَحَ سعْيُنا، ويَتِمَّ فَوْزُنا. وحَذارِ أنْ يَتَسَّربَ

«. الْيَأْسُ إلَى قَلْبِكِ، فإنَّ الْيَأْسَ طَرِيقُ الْخِذْلانِ، والصَّبْرَ مِفْتاحُ الْفَرَجِ

4) أدواتُ النَّجاةِ )

«. مُرْنِي بِما تَشاءُ، فإِنِّي سامِعَةٌ مُلَبِّيَةٌ » : فَقالَتْ لَهُ فِي صَوْتٍ هامِسٍ

أسْرِعِي بِالْعَوْدَةِ إلَى بَيْتِكِ، ثمّ أحْضِرِي ما يأتِي: » :« سِيلا » فقَال

أوَّلًا: خُنْفَساءَةً كَبِيرَةً. 

ثانِيًا: سِتِّينَ مِتْرًا مِنَ الْخَيْطِ الْحَرِيرِيِّ الدَّقِيقِ، الَّذِي لا يَزِيدُ فَتْلُهُ عَلَى خُيوطِ 

الْعَنْكَبُوتِ.

ثالِثًا: سِتِّينَ مِتْرًا مِنْ خَيْطِ الْقُطْنِ الدَّقيقِ الْقَوِيِّ النَّسْجِ. 

رابعًا: سِتِّينَ مِتْرًا مِنَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ الْفَتْلِ. 

12

الفصل الثاني

خامِسًا: حَبْلًا غلِيظًا مِنْ أمْتَنِ الْحبالِ وأقْواها، لِيَحْمِلَ ثِقْلَ جِسْمِي كُلَّهُ، دُونَ أنْ 

يَنْقَطِعَ.

سادسًا: نُقْطةً من الشَّهدِ (عَسَلِ النّحْل)، وهي آخِرُ ما أطْلُبه مِنْكِ، ولكنَّهُ لا يَقِلُّ 

«. خَطَرًا عَمَّا ذَكَرْتُه لَكِ

5) خِتامُ الحدِيثِ )

أرْهَفَتْ زَوْجَةُ الْوزِيرِ أذُُنَيْها، وأَصْغَتْ إلى حَدِيثهِ إصْغاءً. فَلَمّا أَتَمّهُ، أَعادَتْ عَلَيْهِ نَصَّ

حَدِيثهِ — كَلِمَةً كَلِمَةً — لِيتأكَّدَ لَها ما سَمِعَتْهُ مِنْهُ.

وَأَرادَتْ أَنْ تَسْأَلَهُ: لِماذا طَلَبَ الْخُنْفَساءَةَ، وَما فائِدَةُ نُقْطَةِ الشَّهْدِ؟ ولكِنَّهُ قاطَعَ

لا تُضِيعي دَقيقةً أخُْرَى فِيما لا فائِدَةَ مِنْهُ الآنَ، بَل ارْجِعي — يا عَزيزَتي » : كلامَها، قائلًا

—وأَحْضِري ما طَلَبْتُ، فَلَيْسَلَدَيْنا فُسحَةٌ مِنَ الْوَقْتِ نَقْضِيها فِيما لا طائِلَ تحْتَهُ. وحَسْبي

أَنَّنِي سأَقْضِييَوْمًا آخَرَ، أعُانِي فيهِ ما أعُانِيهِ مِنْ حَرارَةِ الشَّمْسِ الْمُلْتَهِبَةِ دُونَ طَعامٍ أو

ماءٍ.

«. عُودِي مُسْرِعةً إلى بَيْتِكِ، وأنْجِزِي ما رَغِبْتُ إلَيْكِ فيهِ، وستَعْلَمِينَ فائدةَ ذَلِك بَعْدَ حِينٍ

6) عَوْدَةُ الزَّوْجَةِ )

فأدركَتِ الزَّوْجَةُ حَرَجَ الْمَأِزِق الَّذِي يُعانِيهِ زَوْجُها. وَلَمْ تُضِعْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِها، بَلْ عادَتْ

مُسْرِعةً إلى بِيْتِها.

فَقَدْ بَقِيَ في مَكانِهِ يَنْتَظِرُ عَوْدَتَها بِفارغِ الصَّبْرِ. وقَدْ تَنازعَهُ الشَّكُّ « سِيلا » أَمَّا الْوزيرُ

والرَّجاءُ فِي نَجاحِ خُطَّتِهِ. وَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ أَيْسَرَخَطَأٍ يقَعُ، كافٍ لإخْفاقِ خُطّتِهِما، وإحْباطِ

مَسْعاهُما، ورُبَّما عَرَّضَأَحَدَهُما، أَوْ كِلَيْهِما، لِلْهَلاكِ.

13


الفصل الثالث

1) في سَفْحِ الْبُرْجِ )

عادَتْ زَوْجَةُ الْوَزِيرِ — قُبَيْلَ الْفَجْرِ — إلَى سَفْحِ الْبُرْجِ. وَما إِنْ سَمِعَ الْوَزِيرُ نِداءَها الْخافِتَ،

وصَوْتَها الْحَنونَ، حَتَّى أَجابَ نِداءَها مِنْ قِمَّةِ الْبُرْجِ. ولَمْ يَسْتَطِعِ الْوَزِيرُ — لِضيقِ الْوَقْتِ

— أَنْ يُفَصِّلَ لَها خُطَّتَهُ كامِلَةً، فاكْتَفَى بِتَلْقِينِها إيّاها مُجَزَّأَةً، حتَّى لا يُفاجِئَهُما ضَوْءُ

الصَّباحِ.

2) أَنْفُ الْخُنْفَساءَةِ )

اُرْبُطِي الْخُنْفَساءَةَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ الْحَرِيرِيِّ الدَّقيقِ، الْعَنْكُبوتِيِّ » : وكانَ أَوَّلُ ما قالهُ لَها

«. النسْجِ، ثُمَّ ادْهُنِي أَنْفَ الْخُنْفَساءَةِ بِالْعَسَلِ

ضَعِي الْخُنْفَساءَةَ عَلى حائِطِ الْبُرْجِ، واجْعَلِي رَأْسَها » : فلمَّا أتَمَّتْ ذلِكَ، قالَ لها الْوَزِيرُ

إِلى أَعْلَى وسَتَشمُّ الخُنْفساءَةُ العَسَلَ — دُونَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لاصِقٌ بأَنْفِها — فَتَحْسَبُ أَنَّ في

أَعْلَى الْحائِطِ خَلِيَّةَ نَحْلٍ، فتُواصِلُ صُعودَها طَمَعًا في الْوصُولِ إلَى مَوْطِن الْعَسلِ، ولا تزالُ

«. جادَّةً في صُعودِها حتَّى تَبْلُغَ قِمَّةَ الْبُرْجِ

الوَزير السَجين

3) على حائِطِ الْبُرْجِ )

فَسارَتِ الخُنْفَساءَةُ صاعِدَةً عَلَى ،« سِيلا » فَفَعَلَتْ زَوْجَةُ الْوَزِيرِ ما أَمَرَها بِهِ. وتَحَقَّقَ ظَنُّ

أَرْجو أَنْ تَمُدِّي لَها الْخَيْطَ، وتَترَفَّقِي في ذلِكِ، حتَّى يَسْلَسَ(يَسْهُلَ » : حائِطِ الْبُرْجِ، فَقالَ لَها

ويَنْقادَ) لَها. فَإِنِّي أخْشَى أنْ يَثْقُلَ عَلَيْها حَملُهُ، فَيُعَوِّقَها (يَمْنَعَها) عنْ مُواصَلَةِ الصُّعُودِ.

ولا تَنْسَيْأنْ تُمسِكي الطَرَفَالآخَرَ مِنَ الْخَيْطِ، حتَّى لا تَتَعَرَّضَخُطَّتُنا لِلْإخْفاقِ (لِلخَيْبَةِ)،

«. فَيَضِيع أمَلنا في الْخَلاص

4) فِي قِمَّة الْبُرْجِ )

وما زالَتِ الْخُنْفَساءَةُ صاعِدَةً حتَّى بَلَغَتْ ذِرْوَةَ الْبُرْجِ. ولَمْ تَكَدْ تَصِلُ إلَيْها حتَّى لَمَعَ في

السَّماءِ أوَّلُ شُعاعٍ مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْس، وبَدَتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ.

16

الفصل الثالث

بِوُصولِ الْخُنْفَساءَةِ إلَى قِمَّةِ الْبُرْجِ، وابْتِهاجِه بِذلِكَ « سِيلا » ولا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْوَزيرِ

النَّجاحِ. عَلى أَنَّهُ لَمْ يُضِعْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ عَبَثًا. فالْتَقَطَ الْخُنْفَساءَةَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قال لِامْرَأَتِه:

«. أَسْرِعي الآن — يا صاحِبَتي — فارْبُطي طَرَفَ الْخَيْطِ الْقُطْنِيِّ بِالْخَيْطِ الْحَريرِيِّ »

فلَمَّا رَبَطَتْهُ جَذبَ الْوَزيرُ الْخَيْطَ الْحَريرِيَّ — في رِفْقٍ — حتَّى أمْسَكَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ

الْقُطْنيِّ.

«. الآن فارْبُطي الْخَيْطَ الْغَلِيظَ بِطَرَفِ الْخَيْطِ الْقُطْنِيِّ » :« سِيلا » فَقالَ

فَلمَّا تَمَّ لَهُ ما أَرادَ، جذَبَ إلَيْهِ الْخَيْطَ الْقُطْنِيِّ، حَتَّى أمْسَك بِالْخَيْطِ الْغَليظِ.

17

الوَزير السَجين

وأَدْرَكَتْ زَوْجَتُه ما يَعْنِيهِ زَوْجُها، فَرَبَطَتِ الحَبْلَ فِي آخِر الْخَيْطِ الْغَلِيظِ، دُونَ أَنْ

بِسُرْعَةٍ، حَتَّى إذا أَمْسَكَ بطَرَفِ الْحَبْلِ الْمَتِينِ، تَهَلَّلَ وجْهُهُ « سِيلا » يُأْمُرَها بِذلك. فَجَذَبَهُ

بِشْرًا وحُبورًا بَعْدَ أَنْ ظَفِرَ بِوَسِيَلةِ النَّجاةِ، وأَصْبَحتْ فِي قَبْضَةِ يَدِهِ. عَلَى أَنَّ فَرَحَهُ لَمْ يُبَدِّلْ

مِنْ هُدُوئِهِ وَثَباتِهِ، ورزَانَتِهِ وبَصَرِهِ بِالْعواقِبِ. فَرَبَط الْحَبْلَ بِقِمَّةِ الْبُرْجِ، ثُمَّ هَزَّ الْحَبْلَ

بِقُوَّةٍ، لِيَتَعَرَّفَ مِقْدارَ صَلابَتهِ. وَرَمَى ثِقْلَهُ عَلَيْهِ — مَرَّةً أخُْرَى — حَتَّى إذا وَثِق بإحْكامِهِ

ومَتانَةِ فَتْلِهِ، واسْتَوْثَقَ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى حَمْلِهِ دُونَ أَنْ يُفَكَّ رِباطُهُ، أَوْ تُحَلَّ عُقْدَتُهُ، أَمْسَك

بالحَبْل — هابِطًا عَلَيْهِ — حَتَّى لَمَسَتْ قَدماهُ الْأرَْضَ، واسْتَردَّ حُرِّيَّتَهُ الْأوُلَى.

واسْتَوْلَتِ الْبَهْجَةُ والدَّهْشَةُ على زَوْجَتِهِ، فامْتَزَجَتْ فِي صَوْتِها رَنَّاتُ الفَرَحِ بأنَّاتِ

الْبُكاءِ، وأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُعانِقُه — وَهِيَ ضاحِكَةٌ باكِيَةٌ — مِنْ شِدَّةِ السُّرورِ. وأَسْرعَ الزَّوْجانِ

إلى مَغارَةٍ قريبَةٍ في الْجَبَلِ، لِيَقْضِيا فيها نَهارَهُما، حَتَّى إذا أقْبَلَ الَّليْلُ، هَرَبا إلَى بَلَدٍ آخَرَ،

حيْثُ يَسْتأنِفانِ حَياةً وادِعَةً.

18

خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

1) حُلْمُ السُّلْطان )

أَمَّا السُّلْطانُ الحائِرُ فَقَدْ حَدَثَ لَهُ مالا يَخْطُرُ بِبالِكَ—أَيُّها الصَّديقُ الْعَزِيزُ —فقَدِ اسْتَوْلَتْ

عَلْيهِ الهُمومُ والأحْزانُ، وأَسِفَ لتَسَرُّعِهِ في الاِنْتِقامِ مِنْ وزيرِهِ السَّجين. وأَدْرَكَ أَنَّهُ سَيَعْجِزُ

عن سِياسَةِ مَمْلكَتِه، ومُغالَبةِ أَعْدائهِ الْمُحِيطينَ بهِ، بَعْدَ أَنْ فَقَدَ وزِيرَهُ الْمُجَرَّبَ الذَّكِيَّ.

فَندِمَ عَلَى ما فَعَلَ، ولَمْ ينَمْ طولَ لَيْلِهِ. فلمَّا لاحَ نورُ الْفَجْرِ، أَخَذتْهُ سِنَةٌ مِنَ النَّوْمِ (نَوْمَةٌ

خَفِيفَةٌ)، فرَأى — في مَنامهِ — خُنْفَساءَةً صَغِيرَةً صاعِدَةً إلَى أعْلَى الحائِطِ، وهِيَ مَلْفُوفَةٌ

في خُيوطٍ وحِبالٍ طَوِيلَةٍ منَ الْحَرير والْقُطْنِ، وما زالَتْ صاعِدَةً حتَّى اقْترَبَتْ مِن أَعْلَى

الحائِطِ. ثُمَّ نَفَضَتِ الْخنْفساءَةُ عَلَى الحائِطِ ما تحمِلُهُ مِنَ الْخُيوطِ والْحِبالِ، فَتَأَلَّفَتْ مِنْها

.« الْعَدْلُ أَساسُ الْمُلْكِ » : جُمْلَةٌ بَديعَةُ الْخَطِّ، رائعَةُ الْمَعْنى. فقَرَأَها، فإِذا هِيَ

ونَظَرَ أمامهُ. فرَأَى الْوَزيرَ السَّجِينَ جالسًا عَلَى عَرْشِهِ.

2) في بُرج الهلاكِ )

فاسْتَيْقَظَ الْمَلِكُ خائِفًا، ونادَى حُرَّاسَهُ مَذْعُورًا، وأَمَرَهمُ أنْ يَفْتَحُوا لهُ الْبُرْجَ. وما كادَ بابُهُ

يُفْتَحُ حتّى أَسْرَعَ السُّلْطانُ إلَى قِمَّةِ الْبُرْجِ، فرَأَى — في طَريقهِ — الْخُنْفَساءَةَ الَّتِي أَبْصَرَها

في مَنامهِ. فارْتاعَ وارْتَبَكَ، ثُمَّ بَحَثَ عَنِ الْوَزِيرِ السَّجِينِ، فلَمْ يَجِدْهُ.

الوَزير السَجين

3) مَصْرَعُ الطَّاغِية )

وَلاحَتْ مِنْهُ الْتِفاتةٌ، فرَأَى حَبْلًا مَرْبوطًا في قِمَّةِ الْبُرْجِ، مُتَدَلِّيًا إلَى أَسْفَلَ، فأَسْرَعَ إلَى شُرْفةِ

الْبُرْجِ لِيَرى جَلِيَّةَ الْخَبَرِ — دُونَ أَنْ يَتَبَصَّرَفِي أَمْرِهِ — فَزَلِقَتْ قَدَمُهُ، وهَوَى جِسْمُهُ مُحَطَّمًا

— مِنْ أَعْلَى الْبُرْجِ — إلَى قاعِدَتِهِ.

4) أَفْراحُ الشَّعْبِ )

وَبَعْدَ قليلٍ ذاعَ الْخَبرُ في أَنْحاءِ الْبِلادِ كُلِّها، وَسَرَى في النَّاسِ سَرَيانَ الْبَرْقِ، وَعَرَفُوا كُلَّ

سُلْطانًا عَلَيْهِم. واجْتَمع أَعْيانُ الْبِلادِ وكُبَراؤُها لِتَنْفِيذِ « سِيلا » ما حدَثَ. فَهتفُوا بالْوَزيرِ

مَشِيئَةِ الشَّعبِ مَسْرُورِينَ بِخَلاصِهم مِنْ ذلِكَ الْعَهْدِ الْمَشْئومِ. وبَعَثُوا رُسُلَهُم يَبْحَثُونَ عَنْهُ

في أَرْجاءِ الْمَدِينةِ، فلَمْ يَعْثُرُوا لهُ على أثرٍ، وعادُوا إلَيْهِم — في الْمَساءِ — خائِبِينَ.

5) السُّلْطانُ الْجَديد )

فَقَدِ انْتَظَرَ حَتَّى مَدَّ الظّلامُ رُواقَهُ، فَخَرَجَ معَ زَوْجَتِهِ — مِنَ الْغارِ — ،« سِيلا » أَمَّا الْوَزيرُ

لِيَهْرُبا إلَى بَلَدٍ آمِنٍ يَعيشانِ فيهِ فَرأَيا فَرَحَ الْنَّاسِ، وسَمِعا نِداءَهُمُ الْجَديدَ؛ فَدَهِشا. وسألَتِ

الزَّوْجَةُ أَحدَ النَّاسِعَن جَلِيَّةِ الأمَْرِ، فَحَسِبَها غَرِيبَةً عَنِ الْمَدِينَةِ، وقَصَّعَليْها كلَ ما حَدَث.

إلى قَصْرِ السُّلْطانِ. ولَمْ يَكَدْ أَعْيانُ الدَّوْلَةِ وسَراتُها يُبْصِرُونهُ، حتّى « سِيلا » فأَسْرَعَ

أَقْبلُوا عَلْيهِ يُهَنِّئُونَهُ فَرِحِينَ.

وأَصْبَحَ الْوَزيرُ السَّجينُ — مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ — سُلْطانَ الْبِلادِ.

20

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هيا نهزم اليويتوب

كورونا - corona